أهلا وسهلا بكم في منتدى المراجع المصرى/المحاسب القانونى محمد صفوت نتمنى لكم اجمل الاوقات برفقتنا
ضع وصفاً للصورة الأولى الصغيره هنا1 ضع وصفاً للصورة الثانية الصغيره هنا2 ضع وصفاً للصورة الثالثه الصغيره هنا3 ضع وصفاً للصورة الرابعه الصغيره هنا4
العودة   منتدى المراجع المصرى/المحاسب القانونى محمد صفوت > المنتدى الاقتصادى > منتدى الاقتصاد الاسلامى
« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: مفهوم الدعم والمقاومة (آخر رد :دعاء يوسف علي)       :: أفضل أنواع التداول (آخر رد :دعاء يوسف علي)       :: خطوات التسجيل في فرنسي تداول (آخر رد :دعاء يوسف علي)       :: شروط تسجيل عضوية بموقع حراج (آخر رد :دعاء يوسف علي)       :: رسوم الحساب الاستثماري في تداول الراجحي (آخر رد :دعاء يوسف علي)       :: اعتماد العزل (آخر رد :مروة مصطفي)       :: شركة امتلاك (آخر رد :مروة مصطفي)       :: كيفية شراء الاسهم الامريكية الحلال (آخر رد :سلمي علي)       :: طريقة تحويل العملات المختلفة (آخر رد :سلمي علي)       :: حجابات شيفون (آخر رد :سلمي علي)      

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-10-2013, 03:50 PM
المحاسب المتميز المحاسب المتميز غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jul 2013
المشاركات: 765
افتراضي بناء النظريات في الاقتصاد الإسلامي



مقدمة
برغم مضي مدة على بداية الحديث عن علم للاقتصاد الإسلامي فما زال هناك وجه للكلام في بعض النواحي المنهجية لهذا العلم، بل إن مضيّ مدة معقولة على البحث والدراسة في العلم -أي علم- يعدّ أحد العناصر المهمة للحديث عن الجوانب المنهجية في هذا العلم. والحديث عن المنهجية هو من جهة على درجة عالية من الأهمية، وهو من جهة أخرى لا يغني عن الحديث عن النواحي المعرفية في العلم. فكلاهما لا غنى عنه في علم يراد له البناء والارتقاء. والذي تودّ هذه الورقة طرحه يتعلق ببعض هذه الجوانب المنهجية، وعلى وجه التحديد:
- موضوع علم الاقتصاد الإسلامي: أهو السلوك الاقتصادي للمسلم أم هو السلوك الاقتصادي للإنسان؟ وبعبارة أخرى أهو الظاهرة الاقتصادية مطلقة أم هو الظاهرة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي؟
- وهدف علم الاقتصاد الإسلامي: أهو مجرد الوصف والتفسير والتنبؤ أم هو إضافة إلى ذلك، تقويم السلوك وتعديله؟
- والتنظير في الاقتصاد الإسلامي: أيعتمد على العقل والحس فقط أم يعتمد أيضاً على الوحي أو النقل؟
- وعلم الاقتصاد الإسلامي وتعدد الرؤى واحتمالية التعرض للأخطاء.
وعليه فإن هذه الورقة تتناول القضايا الأربع الآتية: موضوع علم الاقتصاد الإسلامي، وهدف علم الاقتصاد الإسلامي،التنظير في الاقتصاد الإسلامي، وعلم الاقتصاد الإسلامي وتعدد الرؤى والتعرض للأخطاء.
أولاً: موضوع علم الاقتصاد الإسلامي
من المعروف أن موضوع علم الاقتصاد المعاصر هو السلوك الاقتصادي، أو هو الظاهرة الاقتصادية. فماذا عن موضوع علم الاقتصاد الإسلامي؟ أهو موضوع علم الاقتصاد الراهن نفسه "السلوك الاقتصادي للإنسان"؟ أم هو السلوك الاقتصادي للإنسان المسلم؟ بعبارة أخرى أنحن أمام دراسة عامة ومطلقة للظاهرة الاقتصادية بغض النظر عن نوعية القائم به من حيث عقيدته؟ أم أننا أمام دراسة خاصة لهذه الظاهرة تتحدد في كون القائم به مسلماً، على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي؟
حتى الآن فإن الاتجاه السائد لدى الباحثين في الاقتصادي الإسلامي هو الاتجاه الثاني، ولهذا الاتجاه مبرراته، فالمفترض أننا نريد علماً يفسر السلوك الاقتصادي داخل النظام الاقتصادي الإسلامي وأننا نحتج بعدم قدرة الاقتصادي المعاصر على دراسة هذا السلوك لمغايرته للسلوك الاقتصادي الذي نشأ في ظل النظام الاقتصادي الرأسمالي، لا سيما فيما يتعلق بالمنطلقات والمسلمات الأهداف والغايات. والملاحظ أن القرآن الكريم ينص في أكثر من آية على أن هدايته إنما هي لمن آمن به. ﴿هدى للمتقين﴾ (البقرة: 2)، ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين﴾ (النحل: 89).
وبرغم وجاهة هذه الاعتبارات فإن للاتجاه الآخر وجاهته أيضاً، فكما نصّ القرآن الكريم على أن الهداية للمسلمين نصّ على أنه دين شامل، وأنه جاء للناس أجمعين وأن هدايته مطروحة على كل الناس وأنهم جميعاً مطالبون بها، وأن سنن الله تعالى في كونه وفي سلوك مخلوقاته بما فيها الإنسان هي سنن عامة تطبق على الخلق جميعاً دون استثناء. وفي العديد من الآيات نجد التوحيهات الاقتصادية عامة غير مختصة بالمسلمين، كما في قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً..﴾ (البقرة: 168)، ﴿قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق﴾ (الأعراف: 32)، ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا﴾ (الإسراء: 29)، ﴿ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفا﴾ (النساء: 5)، ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور﴾ (الملك: 15). ثم إن القرآن الكريم والسنة المطهرة كثيراً ما يتناولان بالتحديد سلوكات اقتصادية لغير المسلمين؛ وصفاً وتفسيراً وتقويماً. وإذا كان الاقتصاد العلماني القائم يدعي العمومية والشمول وصلاحيته للتطبيق على كل إنسان، أفلا يحق لنا أن نقول إن الاقتصاد الإسلامي هو أيضاً كذلك؟ ومع كل هذه الاعتبارات القوية فإنه قد يؤخذ علينا ما عبناه على الآخرين. لقد قلنا بتمايز الثقافات والقيم والمعتقدات، وقلنا إن هذه الأمور محددات قوية للسلوك الاقتصادي. فكيف نقول إن علم الاقتصاد الإسلامي يتجه إلى الناس جميعاً؟ ويجاب عن ذلك بأن موجهات الاقتصاد الإسلامي لم تنبع من أناس بأعيانهم، ولا من ثقافة بذاتها، يراد لها أن تعم كل الناس وكل الثقافات، إنها لم تأت من أناس أيا كانوا وإنما جاءت من خارج الإنسان، جاءت من خالق الإنسان، خالق كل الناس وكل الثقافات، وبالتالي فالناس جميعاً أمامها سواء، وهي مطروحة عليهم جميعاً، من يتلقاها ويعمل بها يستفيد ومن يخرج عليها يبوء بالخسران في الدنيا، بغض النظر عن عقيدة المتلقي. فهل التوجيه بعدم الإسراف صالح للمسلم فقط؟ وهل المسرف الملام المحسور هو المسلم فقط وهكذا. والقول بذلك لا يتغاضى ولا يغفل عن وجود توجيهات اقتصادية لا تثمر ثمرتها إلا مع المسلم، لكن ذلك لا يمنع من اتخاذ السلوك الاقتصادي الإنساني عامة هو موضوع علم الاقتصاد الإسلامي ومناط بحثه، ولا بأس، بل إنه من المطلوب أن يتسع لتناول ما هنالك من تميزات في السلوك بين المتبعين وغير المتبعين. وبرغم عدم شيوع هذا الاتجاه فإنني أراه جديراً بالاهتمام، وربما كان أجدر من غيره بالاتباع. وأيا كان الموقف فالأمر لا يمثل عقبة أمام تطور البحث في الاقتصاد الإسلامي، وما أكثر ما تعرض الاقتصاد الوضعي لتيارات فكرية جارفة انتقلت بموضوعه من موقع لآخر، ومع ذلك لم يتوقف في مسيرته ونموه.

ثانياً: هدف علم الاقتصاد الإسلامي
يقال إن هدف علم الاقتصاد هو الوصف والتفسير والتنبؤ، أي إن مهمته دراسة الواقع كما هو، فهو يستهدف التعرف عليه وعلى ما فيه من علاقات بين الظواهر الاقتصادية أو أجزاء الظاهرة.
وهكذا تبلورت وظيفته كما يقال في اكتشاف ما يعرف بالقوانين الاقتصادية. ولذلك عادة ما يسمى هو وغيره من العلوم الاجتماعية بأنها علوم وسائل وأدوات وليست علوم أهداف وغايات. فماذا عن هدف علم الاقتصاد الإسلامي؟ أينحو هذا المنحى أم له منحى آخر؟
وبعبارة أخرى أيقف علم الاقتصاد الإسلامي عند دراسة الواقع كما هو أم يتجاوز ذلك إلى دراسته كما ينبغي أن يكون ثم تحديد الخطوات العلمية والعملية لتعديل الواقع القائم ليصبح هو الواقع كما ينبغي أن يكون؟ بعبارة أخرى: أمهمته وهدفه هي مهمة وضعية أم هي مهمة معيارية؟ أم هما معاً؟ إن العلوم في الإسلام هي علوم مفيدة، ولا معنى لكونها كذلك إلا بإسهامها في تحسين الواقع الذي يعيشه الإنسان. وذلك لا يكون إذا ما توقفت عند مجرد وصف الواقع وتفسيره وإنما يكون عندما تتعامل في منطقة تقويم الواقع وتعديله في ضوء النموذج الموضوع. وقد يقال: إننا لم نختلف. فوفّر لعلماء الاقتصاد النموذج المنشود، وهم بدورهم يدلونك على كيفية الوصول إليه، أي إنهم يبدأون عملهم في ظل هدف محدد لكنهم لا يقومون بتحديد هذا الهدف، ولا يطلب منهم ذلك، فهذا خارج مهمتهم العلمية. ونحن نتحفظ على هذا القول الذي قد يبدو مقبولاً. فعلماء الإسلام في المجال الاجتماعي، ونظراً لوجود هَدْي إسلامي في هذا المجال حتى ولو في محاوره وأساسياته فإن مهمتهم العلمية أوسع مما يقال هنا، حيث إن عليهم أن يتعرفوا على الهَدْي الإسلامي في مجالات علومهم، بمنهج وأسلوب علمي، ويقدمونه في شكل مقولات علمية فنية.
ودلالة ذلك في علم الاقتصاد أننا مطالبون بالنظر الدقيق في القرآن والسنة وأقوال العلماء في الفقه وغيره من العلوم الإسلامية، بحيث نتوصل إلى هذه المقولات في مختلف جوانب الظاهرة الاقتصادية، في الإنتاج وفي الاستهلاك وفي التوزيع وفي التبادل وفي التنمية وفي النقود وفي التجارة الدولية.. إلخ. هذه مهمة أساسية تقع على عاتق الاقتصاديين لا تقل أهمية عن مهمتهم الثانية والمتمثلة في دراسة الواقع من حيث وصفه وتفسيره. ونحب هنا أن نشير إلى أن نتائج هذه الدراسة وإن لم تأت بالضرورة متماثلة متحدة لدى الباحثين فإنها في مجملها سوف تكون كذلك، فمثلاً فيما يتعلق بالهَدْي الإسلامي في مجال الاستهلاك غالباً ما نجد خلافاً حول طبيعة دالة المنفعة من حيث كونها تجمع بين البعد الذاتي والبعد الموضوعي، وبين البعد الشخصي والبعد الاجتماعي، والأمر كذلك حيال بقية المجالات الاقتصادية، فليس هناك خلاف كبير حول نموذج الملكية المطلوب، أو نموذج عدالة التوزيع، أو نموذج السوق.. إلخ ووجود بعض الخلافات في الرؤى لن يعرقل مسيرة العلم ونموه كما لم يعرقل ذلك العلوم الإسلامية الأخرى.
ولنضرب مثالاً يوضح مسيرة البحث العلمي الاقتصادي طبقاً لما نؤمن به من ازدواجية المهمة وضعياً ومعيارياً. سبق أن أشرنا إلى إحدى خطوات الدراسة العلمية وهي التعرف العلمي الدقيق على الهَدي الإسلامي في مجال البحث وصياغة هذا الهَدي في مقولات اقتصادية فنية يفهمها الاقتصاديون ويعتدوُّن بها مثل قولنا إن دالة المنفعة لدى المستهلك المسلم ذات أبعاد متعددة.
ومع أهمية هذه الخطوة وضرورتها فإنها لا تمثل في حد ذاتها هدفاً وغاية تقف عندها الدراسة لأن النفع من ورائها إذا ما اقتصر عليها ضئيل، إن لم يكن معدوماً، ولذلك فهناك خطوة أخرى تتمثل في الدراسة الوضعية لسلوك المستهلك بهدف التعرف العلمي الصحيح على طبيعة هذا السلوك كما هو في الواقع.
وهذه الخطوة رغم أهميتها فإنها لا تمثل هدفاً في ذاتها، ومن ثم فلا يصح الوقوف عندها، وإنما علينا القيام بخطوة ثالثة تتمثل في موازنة نتائج الخطوة الأولى بنتائج الخطوة الثانية وتحديد مدى الاتفاق ومدى الاختلاف. وهذه الخطوة لا يصح الوقوف عندها. بل علينا القيام بهمة علمية أخرى تتمثل في تحديد السبل والوسائل الكفيلة بتعديل الواقع كي يصبح هو المنشود والمقصود أو أقرب ما يكون إليه. وبهذا تكتمل المهمة العلمية لبحث هذه الظاهرة طبقاً للنهج الإسلامي. والملاحظ هنا أن الدراسة تولد عنها قواعد وموجهات، كما تولد عنها قوانين ونظريات. وبذلك فنحن لم ننتقص شيئاً من مقتضيات البحث العلمي.
كما أن أي عمل بحثي في الاقتصاد الإسلامي لا يمر بالضرورة بهذه الخطوات، ففي حالات عديدة قد لا يكون هناك مجال للنظر في الإسلام لمعرفة هَدْيه في هذا المجال، وذلك فيما إذا كنا بصدد دراسة ظاهرة اقتصادية مادية مثل التعرف على علاقة قيمة النقود بكميتها، وسعر السلعة بالطلب عليها، ومنفعة السلعة بعدد وحداتها.. إلخ؛ إن تلك الأمور مجالها العقل والواقع إذ لم ترد فيها نصوص مباشرة إلا تلك النصوص التي تحثنا على استخدام عقولنا وحواسنا في التعرف على تلك العلاقات واكتشاف هذه القوانين والاستفادة منها في سياساتنا الاقتصادية. وفي هذه المسائل نجد التعاون الوثيق بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي، بل لا نبالغ إن قلنا إن الاقتصاد الوضعي بحكم ما لديه من تراكم معرفي وما لديه من مقدرة على استخدام أدوات البحث ومناهجه هو أكثر تقدماً من الاقتصاد الإسلامي في هذا الصدد، ومن ثم فمن المهم، بل من الضروري استفادة الاقتصاد الإسلامي مما هو معروف لدى الاقتصاد الوضعي.
ثالثاً: التنظير في الاقتصاد الإسلامي
قضية التنظير في العلوم قضية متشعبة، ولها مستويات متدرجة، فهي في مفهومها الواسع قد تترادف مع فكرة التأليف العلمي للعلم محل البحث، بما يقوم عليه ذلك من تصنيف وهيكلة ومفاهيم ومصطلحات ومقولات.. إلخ، ومع ما لها من هذا المفهوم المتسع[1] فإن لها مفهوماً ضيقاً بنصرف إلى إيجاد قوانين ونظريات تفسر السلوك الاقتصادي. والذي يتطلب قيامه استخدام كل مصادر المعرفة المعتمدة وهي الوحي والعقل والحواس، وهي تعمل متناغمة متكاملة لا منعزلة ولا متضاربة. وفي تعاملنا مع الوحي نجد الأمر يتطلب النظر العلمي في القرآن والسنة واجتهادات الفقهاء وجهود كل علماء المسلمين على اختلاف تخصصاتهم في هذا المجال، ويتطلب الوعي الجيد بوجه خاص بعلم أصول الفقه وما فيه من مصادر تشريعية متعددة. بعبارة أخرى علينا الإدراك الجيد لأصول البحث الإٍسلامي.
وفي تعاملنا مع الواقع نجد بعض الصعوبات التي من المهم الوعي بها من جهة وبكيفية مواجهتها من جهة ثانية. فكثيراً ما يقال إنه لا يوجد واقع اقتصادي إسلامي حالياً يجري على أساسه التنظير في علم الاقتصاد الإسلامي، بمعنى أن السلوك الاقتصادي للمسلمين في الوقت الراهن هو من جهة مشكوك في إسلاميته، وهو من جهة أخرى لا يختلف إلى حد كبير عن السلوك الاقتصادي لغير المسلمين، فكيف نعول عليه ونرجع إليه في التنظير للاقتصاد الإٍسلامي؟ ثم ما هو المبرر إذن، لإقامة علم جديد للاقتصاد؟
وهكذا تجدنا أمام تحد ليس باليسير، فإما أن نتعامل مع الواقع القائم في بحوثنا ودراستنا، وعند ذلك قد يكون من الصعب إن لم يكن من الخطأ إطلاق وصف الإسلام عليها، وإما أن نهمل هذا الواقع ونسير في بحوثنا ودراستنا، وبذلك تحرم هذه الدراسات من أداة ضرورية لقيام عملية التنظير، وإما أن تتوقف هذه الدراسات والبحوث إلى أن نطمئن أولاً على إسلامية الواقع.
ولا شك أن هذه القضية قد ألقت بعبئها على الباحثين والمهتمين بالموضوع والذين راح بعضهم يرى ضرورة تعديل الواقع أولاً قبل الحديث عن أسلمة علم الاقتصاد.[2] ومع ما لهذا الاتجاه من قدر من الوجاهة المنطقية العلمية، لا سيما وأنه يأخذ بالاعتبار صعوبات جمة تواجه التنظير الاقتصادي الإسلامي في غيبة الواقع الإسلامي، فإن عليه ملاحظات عديدة، منها أننا لو انتظرنا حتى يتغير الواقع فغالباً ما سيطول الانتظار دون عمل أي شيء، ولا سيما أن العديد من المقومات النظرية والعلمية لأسلمة الواقع غير قائمة، إضافة إلى ما قد نقع فيه من فكرة الدورية، فكيف نوجد الواقع الإسلامي في غيبة الاقتصاد الإسلامي؟ وفي غيبة الاجتماع الإسلامي؟ وفي غيبة التربية الإسلامية؟.. إلخ. لذلك اتجه جمهور الباحثين إلى ممارسة النشاط البحثي مع إدراكهم لما في عملهم من صعوبة من جهة، وما يعتريه من بعض جوانب القصور من جهة أخرى. والذي يجب أن نضيفه هنا أنه بفرض التسليم بهذا التقويم لواقع المسلمين الحاضر فإن ذلك لا يعد عقبة يتعذر اجتيازها، حيث إن عملية التنظير في علم الاقتصاد تجري -كما هو معروف- من خلال منهجين؛ المنهج الاستنباطي والمنهج الاستقرائي، الأول يقوم على مجموعة من الافتراضات المشتقة والمرتكزة على مسلمات تنبع من قيم وثقافة المجتمع، وفي ضوء ذلك تجري عملية بناء النظرية واكتشاف القوانين، والثاني يقوم على استقراء الواقع والتعرف عليه ثم الخروج بنظرية أو قانون. ومعنى ذلك أن عملية التنظير ممكنة لدينا، على الأقل من خلال المنهج الأول، فلدينا قيمنا وثقافتنا ولدينا أصل ذلك كله وهو عقيدتنا وشريعتنا، وذلك كفيل بتوفير مسلمات ينطلق منها الباحث في تكوين الفروض والسير في تنظيره إلى نهايته. والمعروف علمياً أن المنهج الثاني يلعب دوره المهم في اختبار صحة أو خطأ ما توصلنا إليه استنباطاً. ونحن نفتقد هذا الدور طالما سلمنا بعدم إسلامية الواقع. لكن ذلك يتناسى أمراً مهماً وهو أن صدق ما تصل إليه من تعميمات ونظريات أو خطأه لا يتوقف لدينا في الكثير من الحالات على عرض ما قمنا به على الواقع، وإنما على موافته أو مخالفته للهَدي الإسلامي في هذا المجال، فهب أن البحث في موضوع الاستهلاك توصل من خلال هذا المنهج الاستنباطي إلى أن المستهلك المسلم معتدل الاستهلاك من حيث الكم، وطيّب الاستهلاك من حيث الكيف فإن صدق ذلك الاستنتاج أو خطأه لا يكون بالرجوع إلى الواقع الفعلي للمستهلك المسلم اليوم، فقد تظهر الدراسة الاستقرائية أن سلوكه مغاير لذلك الاستنتاج أو التعميم، ولا يعني هذا أن التحليل النظري تحليل خاطئ طالما كان هذا التحليل مرتكزاً ارتكازاً علمياً صحيحاً على ما يقول به الإسلام فعلاً. وعلينا عندئذ أن نتعرف على التفسير الصحيح لهذا المخالفة، وتفسير ذلك يتطلب منا تحديد المقولة التي خالفها الواقع وهل هي مقولة وضعية أم مقولة معيارية. ففي مسألتنا هذه قد تكون المقولة في شكل الوضع المزري للمسرف وهي مقولة وصفية أو بمعنى آخر خبرية، وقد تكون في شكل "طيب استهلاك المسلم واعتداله" وهي في حيقيتها مقولة معيارية تتعامل مع ما يجب أن يكون. في الحالة الأولى فإن المخالفة تعني أن القصور في الدراسة الاستقرائية نفسها، من حيث الوصف أو التفسير أو أي جانب من جوانبها، وذلك لأن هذه المقولة مشتقة مباشرة من نص قرآني صريح يمثل سنة من سنن الله التي لا تتبدل وهو قوله تعالى عن حياة المسرف ﴿فتقعد ملوماً محسورا﴾ (الإسراء: 29). وإذا كنا بصدد مقولة معيارية فإن المخالفة هنا قد ترجع -بفرض أن الدراسة الاستنباطية قد تمت وفق المعايير العلمية المعتمدة- إلى قصور في الدراسة الاستقرائية، كما قد ترجع إلى أن الواقع نفسه لم يلتزم بالمنهج المعياري، ولا يعني ذلك عدم صدق المقولة المعيارية لأنها لم تخبر عن واقع أياً كانت درجة صلاحه أو فساده، وإنما هي أخبرت عن واقع صحيح. وإن جاءت بصيغة طلب تحقيق هذا الواقع. وعلينا أن نتفهم جيداً ماذا يعني "الواقع" لدى العلماء الذين تحدثوا في هذا الموضوع واعتبروه محور الصدق والكذب، فهل هو واقع المسرفين أو المخادعين أو الأنانيين أو المضاربين؟ أو غيرهم؟ إن الواقع في المفهوم الإسلامي للعلوم ليس صنماً يعبد وليس أمراً خارج التقويم والتعديل والمحاكمة. فكما هو حاكم في بعض الحالات هو محكوم عليه ومحاكم في بعضها الآخر. وعلينا كذلك، أن نفرق بين واقع الكون وواقع الإنسان، فالأول مسير طبقاً لقوانين إلهية بالغة الكمال في الصدق والثبوت، أما واقع الإنسان وبحكم ما منحه الله من إرادة وحرية فقد يكون واقعاً سليماً، وعند ذلك يصح أن يكون معياراً للاحتكام، وقد يكون منحرفاً، وعند ذلك يكون من الخطأ العلمي تحكيمه. وليس معنى ذلك إهمال الواقع كلية في عملية التنظير، فهناك مجال متسع للاستفادة به، والمهم هو التأكيد على "اعتبار الواقع لا تحكيمه" كما عبر أحد الباحثين.[3]

ويمكننا الاستفادة من الواقع في كثير من القضايا المحايدة مذهبياً مثل قوانين الغلة وقوانين المنفعة.. إلخ. كذلك يمكن الاستفادة به في القضايا ذات الهوية المذهبية فمثلاً عندما نقول إن وضع المسرف مزرٍ. فبرغم أن هذه المقولة معتمدة على نص قرآني فإنه يمكن دراستها واقعياً بهدف التأكد من صحة ما أخبر عنه الإسلام. والملاحظ أنه في كثير من الحالات نجد الإسلام يقدم المقولة المعيارية ثم يشفعها بمقولة وضعية،[4] مثلاً قوله تعالى: ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا﴾ (الإسراء: 29). ولعلّ من جوانب الحكمة في إيراد المقولات الوضعية هنا حث الإنسان على الامتثال لمقتضى المقولات المعيارية، وهو البعد عن الاختلال الإنفاقي، حيث يوضح أن مغبة ذلك تبدو واقعياً في حياة الإنسان؛ تعاسة وسوءاً، والمؤمن له أن يتأكد من صحة ذلك واقعياً من باب التأكد الذي طلبه إبراهيم عليه اسلام وأجابه إليه الله عز وجل، وغير المؤمن له أن يختبر صحة ذلك واقعياً. وبهذا فإن الاقتصاد الإسلامي لا يفقد الفرصة كلية لفحص وعرض نظرياته على الواقع. ثم إن رجوعنا للواقع لا يحقق لنا هذه الفائدة فقط بل يحقق لنا أيضاً معرفة مدى سلامة الواقع نفسه، من خلال مقارنته بالوضع الإسلامي المنشود، وفي حال المخالفة لا تنتهي المهمة العلمية، وإنما تتواصل لدراسة مدى الانحراف الواقعي وعوامله ثم كيفية إزالته، طبقاً لما سبق تحديده من هدف لعلم الاقتصاد الإسلامي. ومعنى ذلك أننا كما نعرض النظرية على الواقع نعرض الواقع على النظرية ونحاكمه في ضوئها. ولنا أن نتساءل هنا هل حقاً قام التنظير في الاقتصاد المعاصر على أساس من الواقع؟ بمعنى أن الباحث كان ينظر أولاً في الواقع ثم ينطلق منه إلى بناء نظرياته أم أن ما جرى عليه التظير في العديد من الحالات هو الانطلاق من فروضه طبقاً لرؤية الباحث وتوجيهاته فيقيم ما يقيمه من نظريات ثم يقوم لاحقاً بعرضها على الواقع أو بعبارة أصح يقوم بفرضها على الواقع، فمثلاً هل كان الواقع هو أساس نظرية أجر الكفاف؟ أم هو الانصياع للنموذج الرأسمالي المرغوب والذي يشدد على وضع الإمكانات المالية في يد الرأسمالي؟ فتجيء النظرية لتتواءم مع هذا المقصود، قائمة على بعض الافتراضات النظرية البعيدة عن الواقع، بدليل أنه سرعان ما تدفع هذه النظرية أو تلك بمخالفتها للواقع، وفي ذلك يقول الدكتور رفعت المحجوب: "بعد أن خلصت المدرسة التقليدية من إقامة نموذجها من الإنسان الاقتصادي رتبت على هذا الفرض -ويلاحظ أنه أبعد ما يكون عن الواقع- كل القوانين الاقتصادية، ولاعتقاد هذه المدرسة في عمومية هذا الفرض خلعت على هذه القوانين صفة العمومية". ثم ينقل عبارة نقد لاذعة لمارشال لهذه المدرسة وهي "وكأنها صاغت من منطق صناعي لوحة زيتية للعالم الحقيقي، وصاغت ما يجب أن يكون صورة لما هو كائن.. فكأن المدرسة التقليدية قد خلصت إلى مقدمات بطريقة التجريد، ثم رتبت عليها نتائج شكلت نظريتها ترتيباً منطقياً بطريقة الاستنباط دون الالتجاء إلى الواقع. وإذا حدث ولجأت إلى المقابلة بعد النتائج المنطقية التي ترتبت على المقدمات من ناحية والوقائع من ناحية أخرى فإن ذلك لم يكن إلا لتقدير الوقائع في ضوء النظرية لا لتقدير النظرية في ضوء الوقائع".وأهمية هذا الاعتراف تتبدى بوضوح إذا علمنا أن هذا هو فحوى كلام الاقتصادي الشهير مارشال نقله عنه د. المحجوب. ولم يقف هذا الاعتراف عند حد المدرسة التقليدية وإنما تجاوزه إلى المدرسة التقليلدية الحديثة أو الحدية والتي يعود إليها معظم مقولات علم الاقتصاد المعاصر. فهي الأخرى باعتراف المحجوب لم تلجأ إلى الواقع إلا نادراً.[5]
ويطرح القضية نفسها اقتصادي غربي معاصر هو روبرت كارسون، مشيراً إلى ما هنالك من تعصب عجيب للمقولات الاقتصادية النظرية على حساب ما عليه الواقع فعلاً. وكيف أنهم عند اصطدام نظرياتهم بالواقع يتمسكون بنظرياتهم ويرفضون الواقع! "ما الدليل الذي يسند الادعاء بأن السلوك البشري مستمد من غريزة تعظيم المنفعة؟ وكيف يمكن لعقلية صاحب متجر إنجليزي من القرن الثاني عشر أن تكون نموذجاً لسلوك اجتماعي واقتصادي عام؟ لم تجد هذه الأسئلة وما يرتبط بها من تساؤلات إجابات مقنعة إلا في النادر. لقد أفضى خوف بعض الاقتصاديين من دحض ادعاءاتهم بالحقيقة العلمية إلى الخروج عن جادة العقل. فعندما سئل جوزيف شومبيتر -المدافع العظيم عن الاقتصاد الكلاسيكي لجيل مضى- عن موقفه إذا دحض الدليل التجريبي الدامغ منطقه وتحليله الشافيين، أجاب دون تردد أنه سيتمسك بنظرياته، لأنها هي التي تمثل الطابع العلمي لا البيانات التجريبية.[6]
ما نريد قوله هنا أن التشدد الكبير الذي يبديه الاقتصاديون في صدر صفحات مؤلفاتهم بخصوص عملية التنظير والاعتماد الرئيسي فيها على الواقع هو أمر فيه مبالغة من حيث ما جرى ويجري عليه العمل العلمي فعلاً.
وأمامنا مخرج آخر يتمثل في عرض ما نتوصل إليه من قوانين ونظريات من خلال المنهج الاستنباطي على الواقع، لكنه ليس الواقع المعاصر، وإنما هو واقع إسلامي وقع وحدث فعلاً في تاريخنا، فلقد تواترت الأخبار عن العديد من الأفراد والمجتمعات التي كان سلوكها الاقتصادي غير بعيد عن النموذج الإسلامي. أو بعبارة أخرى كان الواقع إسلامياً بغير جدال، فلمَ لا نحاكم ما نصل إليه من خلال هذا الواقع؟ إن مشكلة النظرية -أية نظرية- هي في عجزها عن تفسير الواقع ووصفه. والنظرية الاقتصادية الإسلامية لا تنصرف إلى وصف سلوك المسلمين المعاصرين بالذات وتفسيره، وإنما هي تقوم بوصف سلوك المسلم الحقيقي وتفسيره. وعندما تصدق في ذلك حتى ولو كان هذا المسلم غير موجود الآن لكنه قد وجد فعلاً في زمن مضى فإن النظرية تكون قد أدت هذه المهمة. وهناك مخارج يمكن للبحث في الاقتصاد الإسلامي أن يسلكها في ظل الواقع القائم.
ثم ما مدى صدق مقولة إن الواقع المعاصر غير إسلامي؟ إن ذلك يتوقف على تحديد المقصود بالإسلامي، فإن كان ما توفرت فيه كل الأحكام والآداب والأخلاق الإسلامية، فإن هذا الوصف لا يتحقق إلا نادراً. والحمد لله فإنه لم يقل أحد من علماء المسلمين بذلك، أخذاً من النصوص الإسلامية ذاتها. فيقول تعالى: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ (التغابن: 16)، ويقول ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله﴾ (فاطر: 32)، وقال r: "سددوا وقاربوا" (البخاري). والمعروف أن الإسلام لا يزول عن الإنسان لارتكابه بعض المحرمات أو تقصيره في بعض الفرائض، ناهيك عن المكروهات والمستحبات. ونحن في دراستنا الاقتصادية لسلوك المسلم لن نفتش عن المسلم الورع السابق بالخيرات ونتخذ منه وحدة للدراسة، لكننا نفتش عن المسلم العادي الذي يخطئ ويصيب، ويلتزم وأحياناً لا يلتزم. وقد فصل أحد الباحثين القول في ذلك تفصيلاً طيباً.[7] وانتهى إلى أن الواقع الذي ينبغي التعويل في وضع النظريات والقوانين هو الواقع العادي، وليس هو الواقع المثالي الذي يلتزم بكل شيء حتى ما كان داخل نطاق المندوب والمكروه. وإنما يعول على الواقع المثالي فقط عند تحديد الوضع الأمثل الذي نحرص ونسعى إلى الوصول إليه دون أن نكون ملزمين شرعاً بذلك. وما بالنا نبالغ في ذم الواقع، أليس هناك الجمهور الغفير من المسلمين الذين يؤدون الزكاة ويرفضون الربا والغش والاحتكار والظلم وبخس الناس حقوقهم وأموالهم ويبذلون بعض ما لديهم للفئات المحتاجة وللمصالح العامة ويعتدلون في استهلاكهم ويحرصون على أن يكون طيباً.. إلخ؟
يبقى بعد ذلك إلقاء نظرة سريعة على التنظير بمفهومه الواسع، وهنا نواجه بالعديد من المسائل، والتي منها ما يتعلق بهيكل علم الاقتصاد الإسلامي وتبويباته وتفريعاته، والأمر هنا أمر اتفاق واصطلاح بين الاقتصاديين، والمهم هو الوفاء بالغرض من ناحية، والتماسك الفني واستيفاء مقتضيات منهجية العلوم من ناحية أخرى، ولا يضير بعد ذلك أن يكون مماثلاً في ذلك للاقتصاد الوضعي أو مغايراً. والتفريع من حيث طبيعة الوحدة محل الدراسة قد يكون له وجه، فهناك الوحدات الأساسية وهناك الوحدات الكلية وهناك الوحدات العامة، ولذلك فمن المقبول قيام فرع للاقتصاد الجزئي وآخر للكلي وثالث للاقتصاد العام. وقد يكون من المفيد طرح بعض التنبيهات والتي منها أن الوحدة الأساسية إن تمثلت أساساً لدى الاقتصاد الوضعي في الفرد فإنها تتمثل في الاقتصاد الإسلامي في الأسرة أو العائلة، أي الفرد ومن يعوله، فعند الاستهلاك يراعى الفرد ومن يعول وأيضاً عند الإنتاج ينظر للفرد ومن يعول، بمعنى أن على الفرد أن ينتج ويكتسب لا بقدر ما يفي بحاجته فقط، وإنما ما يفي بحاجته ومن يعول، والحال كذلك عند الإنفاق على الغير وعند المشاركة في تحمل الأعباء العامة. وتبعاً لذلك فقد يكون هناك مترتبات جديدة في التحليل والنتائج والسياسات.
الملاحظة الثانية تتعلق بعلاقة الاقتصاد الجزئي بالاقتصاد الكلي، فالمعروف اقتصادياً أن بين الاثنين في الاقتصاد الوضعي قدراً كبيراً من التباعد في الأهداف والغايات والمنطلقات، ويرجعون ذلك إلى عوامل عديدة ليس هنا مجال التعرض لها.[8] والمهم أن العلاقة في إطار الاقتصاد الإسلامي هي علاقة تكامل وتناغم، فكلاهما محكوم بمبادئ واحدة، وبالتالي فإن الروح السارية فيهما روح واحد. فكما أن غاية الاقتصاد الكلي تحقيق التوظيف الكامل للموارد والاستقرار الاقتصادي فإن هذه الأمور لا تغيب عن غاية الاقتصاد الجزئي.
ومن حيث المصطلحات فإن من حق الاقتصاد الإسلامي أن يستخدم المصطلحات الشائعة في الاقتصاد الوضعي، والمهم قيام مناقشات علمية جادة لهذه المفاهيم والمصطلحات بغية التعرف على أبعادها ومرتكزاتها بحيث لا تصطدم بالتوجيهات الإسلامية، وبحيث إذا كانت تحمل قدراً من ذلك في ضوء الاستخدام الغربي لها مثل المنفعة والرشد والعدل في الثمن والأجر، فإنها لا تهجر حيث إنها مصطلحات إسلامية لكن يشار إلى ذلك حتى يكون القارئ على بينة من الأمر. ومع ذلك فمن المهم، بل في بعض الأحيان يكون من الضروري استخدام المصطلحات الإسلامية الاقتصادية. وبالتأكيد سوف يظهر العديد من هذه المصطلحات مثل: الكرم والسخاء والجود والإصلاح والفساد والاستخلاف والتدبير والخيلاء والمن والسحت والبخس، وغيرها. ومن المتوقع أن يحدث استخدام هذه المصطلحات بما لها من مضامين ذات طابع إسلامي خاص تعديلات وتطويرات عديدة في المقولات الاقتصادية. كذلك فإنه لا حرج بل قد يكون من الضروري استخدام الاقتصاد الإسلامي للعديد من الأدوات التحليلية والأساليب البحثية المستخدمة في الاقتصاد الوضعي. طالما كانت معبرة تعبيراً جيداً عن الفكرة المطروحة.[9]
رابعاً: علم الاقتصاد الإسلامي وتعدد الرؤى والتعرض للأخطاء
هذه قضية على درجة كبيرة من الأهمية، وسوء الفهم لها يرتب نتائج لها خطورتها على مسيرة البحث في علم الاقتصاد الإسلامي. ويفهم بعض الباحثين أنه طالما نحن أمام اقتصاد إسلامي فنحن بالضرورة أمام رؤية واحدة وموقف واحد، وذلك لأن للإسلام موقفاً واحداً حيال أي قضية. ومعنى هذا أنه من غير المتصور وجود أكثر من رأي أو اتجاه حيال مختلف المسائل الاقتصادية. ونحب أن نؤكد أن هذا الفهم غير صحيح. وعلينا أن نتفهم بعمق ووضوح أننا في علم الاقتصاد الإسلامي أمام رؤية بشرية واجتهاد بشري، حتى ولو كنا في مجالات ذات طابع مذهبي، حيث إن المدون والمكتوب هو استخلاص واستنباط من الأصول الشرعية، والناس متفاوتون في المقدرة على الفهم والاستنباط بل ومتفاوتون في معرفة هذه الأصول الشرعية والإحاطة بها. ومن ثم فمن الطبيعي أن تجيء الرؤى متنوعة متعددة. ولا يعني ذلك أن المرجعية الشرعية متعددة متنوعة. بل هي مرجعية واحدة. فقد يرى بعضهم أن النظرية أو السياسة النقدية القائمة على كذا هي الأقرب إلى هَدي الإسلام، بينما يرى البعض الآخر غير ذلك. إننا لا نختلف على القواعد والأصول والموجهات، فهذه ثوابت لا خلاف حولها، وإنما نختلف داخل هذه الأصول والقواعد، قد نختلف داخل النظام المزدوج للملكية، ولكننا لا نختلف على هذا النظام. وقد يكون مصدر الاختلاف هو تغاير الظروف المحيطة بالحالة موضوع البحث من كاتب لآخر، وقد يكون مصدره تنوع الفهم وتمايزه. وهكذا فنحن أمام وحدة كبرى تحتوى على العديد من التنويعات. وعلينا ألا ننزعج من هذا التعدد في الرؤى بل نشيد به ونقدره، فلقد وقع في العلوم الشرعية كالفقه والتوحيد وغيره. وعلينا بالدرجة نفسها من الوضوح والثبات ألا ننزعج من تعليق بل سخرية بعض الاقتصاديين المعارضين عندما يجدون نوعاً من تعدد الرؤى فنسمع منهم أين هو الاقتصاد الإسلامي؟ وهل هناك إسلامان؟!
ولا شك أن هذا الموقف غير مقبول إسلامياً، كما معروف، وكذلك غير مقبول علمياً، فالعلم أي علم يحتمل بل ويتسع للعديد من المدارس والنظريات المتعارضة، وهذا مشاهد بوضوح في علم الاقتصاد المعاصر.
إذن الأمر في الاقتصاد الإسلامي يتسع للرأي والرأي الآخر، ويترتب على ذلك عدم صحة تسفيه المخالف في الرأي، والتعصب الذميم للرأي والرفض المطلق للرأي المغاير. لقد اتسعت العلوم الشرعية لذلك بصدر رحب، وهي أقرب بطبيعتها إلى الوحدة من علم الاقتصاد، فكيف يضيق الاقتصاد بذلك؟! إن عملية التقويم والنقد للأفكار والآراء المطروحة أمر وارد، بل وضروري، لكن ذلك شيء والرفض المطلق للرأي المغاير شيء آخر. وما أجمل وما أدق عبارة الفقهاء رحمهم الله "قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب".
وهذا يجرنا إلى مسألة ذات صلة وهي مسألة ورود الخطأ في مقولات علم الاقتصاد الإسلامي. وطالما سلمنا بأن هذه المقولات من حيث صياغتها وتحليلها والقول بها عمل بشري فهي عرضة للخطأ، ولا حرج في ذلك. أليس في كتب الفقهاء العديد من الأحكام الخاطئة، ألم نسمع كثيراً عند تناول الآراء الفقهية المختلفة في مسألة من المسائل أن فلاناً يرى كذا وهو خطأ. ومن عظمة الإسلام أنه في المجال العلمي يحترم الخطأ العلمي بل ويثيب على الجهود المبذولة والتي أوصلت إليه "من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر"، وما ذلك إلا إدراكاً منه لحقيقة العلم البشري وحدوده وحدود طاقة الإنسان وقدراته العقلية. وبالطبع فإن هذه الأخطاء والتي قد تجري في ثنايا علم الاقتصاد الإسلامي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالإسلام نفسه. فهو معصوم من الخطأ، فنحن في علم الاقتصاد الإسلامي أمام فهم للإسلام ولسنا أمام الإسلام. وقديماً عرضت مسألة لعمر عليه السلام فأبان وجه الحق فيها، حيث كتب كاتب له بعد بيان حكم مسألة ما، هذا حكم الإسلام في هذه القضية. فأمره عمر بتغيير ذلك إلى هذا حكم وفهم عمر للإسلام، قائلاً له: هذا فهمنا، ولا ندري أوافق الإسلام أم لا.[10] وهذا فهم عمري سديد لحديث الرسول r، والذي فيه يقول لقادة السرايا: ".. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا".[11]
وسوء الفهم في هذه القضية أثّر سلبياً في تطوير البحث في الاقتصاد الإسلامي، حيث أحجم بعض الباحثين عن استخدام بعض الأدوات التحليلية وبعض الأساليب، مثل النظرية، فقد رفضوا استخدامها بحجّة أنها تحتمل الصواب والخطأ. بل إن بعضهم أحجم كلية عن بذل أي جهد فكري في مجال الاقتصاد الإسلامي خوفاً من الوقوع في الخطأ، والقول على الإسلام بما ليس فيه. وكل ذلك غير صحيح شرعاً، طالما أن الفرد قد توفرت له بقدر مناسب معرفة بالهَدْي الإسلامي من مصادره المتنوعة، والتزم قواعد البحث العلمي. وإننا نتفق مع من قال: "إن النظريات العلمية المتخصصة الموجهة إسلامياً وإن استمدت مسلماتها وأطرها العامة من التصور الإسلامي إلا أنها ليست في نفسها وحياً منـزلاً، وإنما هي بالضرورة مشتملة على اجتهادات وأفكار بشرية ضمن مكوناتها الرئيسية، فهناك اختيار من الباحث لبعض الآيات والأحاديث واستبعاد لبعضها، وهناك اختيار لتفسيرات معينة. وفي كل ذلك قد يرد الخطأ".[12]



* دكتوراه في الاقتصاد الإسلامي من جامعة الأزهر، 1982. أستاذ ورئيس قسم الاقتصاد بكلية التجارة، جامعة الأزهر، فرع المنصورة.

[1] عبد الفتاح، سيف الدين. القرآن وتنظير العلاقات الدولية، في المداخل المنهاجية، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996م، سلسلة العلاقات الدولية، ج3، ص73.

[2] محمد باقر الصدر. اقتصادنا، بيروت: دار الفكر، 1969، ص 292، قارن يوسف كمال، الإصلاح الاقتصادي: رؤية إسلامية، دار الهداية، 1992م، ص 9 وما بعدها.

[3] عبد الفتاح، سيف الدين. الواقع العربي المعاصر: رؤية إسلامية، القاهرة: دار النهضة المصرية، 1989م، ص 42.

[4] دنيا، شوقي. القرآن والتنظير الاقتصادي، مجلة مصر المعاصرة، يوليو/ أكتوبر 1998، العدد 451-452، السنة التاسعة والثمانون، القاهرة.

[5] المحجوب، رفعت. الاقتصاد السياسي- الكتاب الأول، القاهرة: دار النهضة العربية 1964، ص 37-38.

[6] كارسون، روبرت. ماذا يعرف الاقتصاديون..؟ ترجمة د. دانيال عبد الله، القاهرة: الدار الدولية للنشر، 1994م، ص 42.

[7] الثمالي، عبد الله. الاقتصاد الإسلامي بين النقل والعقل، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، السنة السادسة، العدد 24، 1995.

[8] شابرا، محمد عمر. ما هو الاقتصاد الإسلامي؟ المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة، 1996، ص 24 وما بعدها.

[9] دنيا، شوقي. النظرية الاقتصادية من منطور إسلامي، الرياض: مكتبة الخريجي، 1984م، ص 43 وما بعدها.

[10] الإمام الباجي، إحكام الفصول في أحكام الأصول، ولفظه فيه "كتب أبو موسى عن عمر (هذا ما أرى الله عمر)، فأنكر عليه عمر، وقال: اكتب (هذا ما رأى عمر. فإن يكُ خطأ فمن عمر)، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1986، ص 712.

[11] مسلم: صحيح مسلم في شرح النووي. بيروت: دار الفكر، ط13، باب الأقضية، حديث 3240، ج12، ص13.

[12] رجب، إبراهيم. منهج التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية، مجلة المسلم المعاصر، العدد 80، 1996م.

ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك

رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

Facebook Comments by: ABDU_GO - شركة الإبداع الرقمية
كافة الحقوق محفوظة لـ منتدى المراجع المصرى/المحاسب القانونى محمد صفوت